الصفحة الرئيسية آراء |
جو غانم - سيبار
تزامنًا مع انتهاء مباحثات المبعوث الأميركي، آموس هوكستين، في بيروت، والحديث عن ضغوط كبيرة على المستوى السياسي في لبنان، تصل حدّ "فرض شروط" إسرائيلية تُلامس إعلان الاستسلام والإذعان، استهدف سلاح الجوّ في كيان الإحتلال الإسرائيليّ، نقطة "المصنع" الحدودية بين لبنان وسورية من الجهة اللبنانية، وذلك للمرة الثالثة منذ إعلان الكيان بدء عملياته العسكرية المباشرة ضد لبنان.
يتذرّع قادة الكيان في كلّ مرة يعتدون فيها على نقطة حدودية بين البلدين، باستهداف طرق الإمداد العسكرية التي ترفد المقاومة اللبنانية بالسلاح والعتاد من سورية، كما تدّعي تقارير العدو دومًا.
وعلى الرغم من استهداف صواريخ العدو لأكثر من مركز حدودي لبناني – سوريّ خلال الأسابيع الأخيرة، لكنّ اللافت في الأمر هنا، هو تكرار استهداف نقطة "المصنع" تحديدًا، وهي أكبر نقطة حدودية بين البلدين، أي النقطة التي يتواجد فيها يوميًّا، عدّة آلاف من اللبنانيين والسوريين المدنيين الهاربين من جحيم الحرب التدميرية التي يشنّها هذا العدو على لبنان وأهله. وبالتالي، هي "النقطة المكشوفة" التي لا يمكن تمرير أي سلاحٍ أو ذخيرة من خلالها، دون أنْ يرى ذلك أو يلاحظه الجميع. لكنْ، متى اعتمدت الدعاية العسكرية الإسرائيلية على أي منطق يحترم العقل، في تبريرها لاعتداءاتها على أي هدف تستهدفه؟ تقول هذه الدعاية بهذا الخصوص، إنّ ثمّة نفقاً طويلاً يربط بين البلدين، ويقع تحت نقطة "المصنع" تمامًا. وبغضّ النظر عن هذه الدعاية السمجة، فقد بلغ الأمر تهديد المسؤولين في الدولة اللبنانية وتحذيرهم من إرسال أي آليّة لإصلاح الإسفلت الذي تسير عبره المركبات المدنية العابرة داخل المركز. ما يكشف بوضوحٍ، عن وجود أسباب وأهداف أخرى أبعد ما تكون عن موضوع نقل السلاح والذخيرة عبر "المصنع" أو "تحته".
المتابع لمجريات ومسارات العدوان على لبنان طوال الأسابيع الماضية، لا بدّ وأنْ يصل إلى استنتاجات منطقية تتعلّق بأهداف قصف المراكز الحدودية، خصوصًا أنّ هذا العدوان الوحشيّ يتكوّن من عدة طبقات متوازية تمامًا، تعمل معًا للوصول إلى أهداف كبرى تتعلّق بـوجود "حالة المقاومة" في لبنان برمّتها. فإلى جانب المسار العسكري الذي أخذ منحىً واضحًا في اعتماد إحداث أوسع دمارٍ ممكن في القرى والبلدات والأحياء المحسوبة على بيئة المقاومة في لبنان، وإيقاع أكبر عدد من الشهداء والضحايا، بهدف بثّ الرعب في نفوس من يبقوا على قيد الحياة، هناك "المسار النفسيّ" الأوسع الذي تتلاقى فيه الجبهة العسكرية الغاشمة، مع "الجبهة الإعلامية" الفتّاكة بدورها، والتي بدأت مبكرًا بالهجوم بكل ما أمكن من وسائل الضغط على المجتمع اللبنانيّ، وهو مسار يُستهدف فيه كلّ لبنانيّ على الإطلاق، ويُذكّرنا بطريقة تعاطي أعداء سورية مع المجتمع السوري في السنوات الأولى من الحرب عليها، كما يحاول اجترار سيناريو غزّة الماثل أمامنا الآن. وهناك أيضًا، "المسار السياسيّ"، الذي عبّرت عنه "شروط" هوكستين البارحة.
وعليه، يمكن القول إنّ نقطة "المصنع"، ليست مجرّد نقطة حدودية مكشوفة، بل هي "نقطة كاشفة" أيضًا، بمعنى إنها إحدى النقاط الهامة التي تتلاقى عندها المسارات الثلاثة، لتتكشّف أهدافها البعيدة.
باختصار، ثمّة مقولة يرددها بعض "أدوات العدوان" الإعلامية والسياسية في الداخل اللبناني، ويجري العمل على ترويجها بقوّة وبصياغات مختلفة مؤخّرًا، وهي إنّ "المقاومة هي سبب الإحتلال" لا العكس. أي أنّ وجود المقاومة، هو ما يجلب كل هذا الويل والدمار والمآسي على الشعب اللبنانيّ، وبالتالي على هذا الشعب أن يكفر بالمقاومة، وأن يُحمّلها مسؤولية كل آلامه وعذاباته، وأنْ ينبذ المقاومين في بيئته، باعتبارهم السبب الرئيسي لغياب الأمن والأمان. وهذا يوصلنا إلى النتيجة النهائية التي تفتّق عنها العقل الوحشي الإسرائيليّ وأوكل ترويجها لأدواته المحليّة كي تكتسب بعض "الشرعيّة"، للردّ على الجملتين الجنوبيّتين الأشهر على الإطلاق: "فِدا السيد" أو "فِدا المقاومة"، ومحاولة محوهما إلى الأبد، أو تحويلهما إلى كلام يجلب المصائب لقائله. لكنّ جملة أخرى بالغة الأهمية والدلالات، تدخل في هذه النتيجة أيضًا، ويُراد محوها على نقطة "المصنع" تمامًا، وهي جملة بدأ اللبنانيون بتكرارها كثيرًا في الأسابيع الأخيرة بعد بدء العدوان والتهجير: "الحمد لله أنّ سورية هي جارتنا، وليس بلدًا آخر".
إذًا، تكتمل عناصر المشهد عند نقطة "المصنع" تمامًا، بعد أنْ تمرّ بعدّة مسارات يُدمّر فيها لبنان ونسيجه الاجتماعي ويُستهدف عسكريًّا وسياسيًّا ونفسيًّا وإعلاميًّا، لعزل المقاومة وحصار أهلها وتشريدهم في العراء، دون أنْ يجدوا مأوى في الداخل أو في الدولة الوحيدة التي تفتح أبوابها لهم وتعلن بوضوح، ومن أعلى مستويات القرار فيها، الاستنفار لأجل استقبالهم ورعايتهم وحفظ كراماتهم. ولعلّ في طريقة الترويج المسعور لمادة مرئية قصيرة تظهر فيها امرأة جنوبيّة كبيرة في السنّ، تُحمّل فيها المقاومة مسؤولية العدوان الإسرائيلي على بيتها، ما يكشف كلّ هذا المخطط الذي رأينا مثله في غزّة، بعد أنْ قطع العدو كل طرق النجاة على أهل غزّة، ودفع بعضهم إلى لوم المقاومة.
لذلك يُضرب "المصنع"، ولذلك تُستهدف مناطق أخرى في لبنان لا وجود تقليدي فيها للمقاومة ومراكزها وأهلها، ولهذا تُضرب بيروت أيضًا، المطلوب هنا هو "استسلام" المجتمع، وخصوصًا بيئة المقاومة، ووضعهم أمام خيارين: إمّا الموت والعراء، وإمّا التبرّؤ من هذه المقاومة والمساعدة في تدميرها والخلاص منها إلى الأبد. ثمّ وضع كلّ هذا برسم السياسيين اللبنانيين، كما برسم المقاومين: هذا هو الأمر، وننتظر إعلان حالة الإذعان.
ثمّة سبب آخر بالغ الرمزية في عملية تكرار ضرب نقطة "المصنع"، وهو أنّ هذا الطريق، هو "طريق الشام"، طريق دمشق، عاصمة الجمهورية العربية السورية، التي تُعلن بالقول والفعل والتضحيات الجسام، أنّها قلب هذه المقاومة ورئتها وظهرها وظهيرها.
يبقى السؤال الأهم: هل تنجح خطط العدو هذه؟ يمكن كتابة صفحات عن تاريخ الشعوب المقاومة هنا، وعن نتائج الصراعات المستمرة منذ الأزل، بين أصحاب الأرض والحق، وبين المحتلّين والطامعين، لكنّنا نستعيض عن ذلك كلّه بثابتٍ أكيد، هو أنّ المستعمر "تلميذٌ بليدٌ جدًّا"، لا يتعلّم أبدًا.
عدد المشاهدات: 82 |
963116128915
info@seebar.news