الصفحة الرئيسية آراء 

وثيقة وطن والتأريخ الشفويّ: تكلّموا .. كي نرى سورية

جو غانم – سيبار:


"هزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها
هزَمتْكَ يا موتُ الأغاني في بلادِ الرّافدين
هزمتْكَ وانتصرَتْ
وأفلَتَ منْ كمائِنكَ الخلود"
- محمود درويش
 
قبل ما يقرب من 2500 عام، دخل الفيلسوف اليوناني الكبير، سقراط، في نقاشٍ موسّع ومتشعّب مع تلامذته. وبعد وقت طويل من الأخذ والرد، لاحظ المعلّم الكبير أنّ أحد الحاضرين لم ينبس ببنتِ شفةٍ طوال الحوار، فبادرهُ قائلًا: "تكلّمْ، حتى أراك". 


هذه الرواية التي نستذكرها الآن بعد كل تلك القرون، تناقلتها ألسنة التلاميذ أنفسهم، لتتدحرج بين شفاه الناس وآذانهم لمرّاتٍ لا تُعَدّ، قبل أنْ تجد لها مكانًا لائقًا في أوّل كتابٍ للتاريخ. وهي ذاتها، وصلتنا بنسخٍ متعدّدة ومختلفة، بيد إنّ الفكرة الأساسية التي أراد الفيلسوف العظيم إيصالها من خلال تلك الجملة البديعة والعميقة، بقيت حاضرة بقوّة، ولا لبس فيها.

لقد "تكلّموا" عنها قبل كل شيء، فعلوا ما أراده سقراط  لنا تمامًا، لكي نَرى، وكي نُرى، ومعنى الرؤية هنا، أبعد بكثير من أنْ تقيسه أجهزة "فحص النّظر" الحديثة.

إنّها نحن أوّلًا، ذواتنا، تاريخنا الشخصي، ثم تاريخنا العام. هي السرّد الأول والأصلي والمباشر لواقعنا الذي سيصبح تاريخًا.


لقد عُرِف العرب، أكثر من أي شعبٍ آخر، بشغفهم بـ "فنّ السيرة"، قبل أنْ يجتهدوا في تحويله إلى علمٍ رصين يستند إلى الكلام. والدارس لتاريخ الأدب العربيّ، كما التاريخيْن المسيحيّ والإسلاميّ، سيكتشف كم كان تأثير "الرواة" عند العرب، عظيمًا في نقل وأرشفة تاريخنا الذي تقرأه الأجيال الآن.

فالأناجيل دوّنها من استمع إلى كلمات المسيح وشهد عليها، ثمّ حوّلها من مادة شفهيّة إلى مادة تاريخيّة مدوّنة. وكذلك فعل المسلمون الذين انتهجوا أسلوبًا قاسيًا في نقل القرآن الكريم، ثم السيرة النبوية، إلى كتب مدوّنة، وذلك لضمان انتقالها بالطريقة الصحيحة والأمينة.


وقديمًا، كان الشاعر هو "وزير إعلام" القبيلة، لكنّ "الرّاوية" كان في حالات كثيرة، أشدّ أثرًا من الشاعر نفسه، فهو الحافظ للتاريخ (القول وتفاصيل الحدث) وناقله، وبالتالي القادر على التلاعب به أو تبليغه بأمانة، وعليه تقع مسؤولية إيصال الأمر كلّه عن طريق "الكلام" إلى أكبر عدد ممكن من الناس، قبل أنْ يأتي عصر التدوين وتستقرّ "الصورة المجتمعيّة" هذه، وتتحوّل إلى تاريخ موضوعٍ للمجتمعات والشعوب. 


ولعلّ أبرز ما ميّز هذا "التأريخ الشفهيّ" في حالات كثيرة، هو عدم تجاهله للمهمّشين والأفراد العاديين في المجتمع، ليس فقط لعاداتهم وتقاليدهم وطبائعهم والأحداث التي وقعت عليهم وأثّروا أو تأثّروا فيها، بل لشهاداتهم على كلّ هذا أيضًا.

فقد اقتحم هؤلاء التاريخ كشهود على أنفسهم، وعلى مجتمعهم، وعلى عصرهم، وهذا ما أغفلتْه كثيرًا، عمليّة التأريخ التقليدية التي صاغتها "النخبة" وقدّمتْها للعالم. 


في سورية، برزت بقوّة مؤخّرًا، مؤسّسة "وثيقة وطن". وفي تعريف القائمين على هذا المشروع الكبير، للمؤسّسة، نجد أنّ أحد أهمّ أهدافها، هو "حفظ الذاكرة الوطنية من الضياع أو التشويه أو التزوير"، والإسهام في "كتابة التاريخ السوريّ المعاصر بأيادٍ سوريّة وفق التأريخ الشفويّ". وتلك واحدة من أصعب المهام التي يمكن التصدّي لها في تاريخنا الحاليّ، خصوصًا بعد سنوات طويلة من الحرب التي شُنّت على هذه البلاد، وأثّرت كثيرًا في أبنائها ومجتمعها وواقعها ومستقبلها. لكنّ المتابع لانطلاقة هذه المؤسسة ومنهجها العمليّ والعلميّ، يستبشر خيرًا كثيرًا، في أننا أمام مشروع سيضمن لهذه البلاد وأهلها، أنْ "يُرَوا" كما يجب، وكما يليق بهم وبتاريخهم. 


ولأنّ الدكتورة بثينة شعبان، هي صاحبة تلك "الرؤية" الفريدة، لم أستطع أنْ أتجاوز الربط بين رنين تلك "الكلمات" (أو الشّهادة الشخصيّة) التي ألقتها تلك الفتاة الصغيرة المتفوّقة، ذات ظهيرةٍ وقبل عقود في مدينة حمْص، على مسامع الرئيس الراحل حافظ الأسد، فغيّرت من خلالها "تاريخ" آلاف التلامذة والطلاب المتفوقين في سوريا، بل ووضعتها هي نفسها، وكما تستحقّ، في قلب التاريخ السوريّ المشرّف.


لكنْ، لماذا تكون عملية الاستناد إلى "التأريخ الشفوي" لهدف كتابة تاريخ سوريا المعاصر، بالغة الأهمية في واقعنا الحالي تحديدًا؟ ليسمح لي القارئ هنا، أنْ أنطلق من تجربةٍ شخصيّة قد يُغني ذكرها عن صفحات عديدة. فأثناء معركة تحرير حلب، طلب مني مدير أحد مراكز الأبحاث، أنْ أكتب مادة وافية عن الحدث الجاري في حلب، وعن واقع المدينة، فبقيت لعدة أيام، بينما أجلس على بُعد مئات الكيلومترات من حلب، أعمل بجدّ على هذا الأمر، دون أنْ أصل إلى الهدف المنشود، أو إلى "المادة المحترمة" التي سأسمح لنفسي بتقديمها، فتوصّلت إلى هذه الرسالة: "إذا أردتَ مادةً رصينة، فعليَّ الذهاب إلى حلب الآن، والحديث مع عدة مئات من أهلها ومن الأبطال الذي يخوضون المعارك في شوارعها وأزقّتها وسمائها، وهذا غير متاح أو ممكن حاليًّا". 


وعليه، فإنّنا بعد كلّ تلك الحرب وتلك الوقائع التي اختبرتها سورية خلال "عشريّة النار"، سنحتاج إلى "الكلام" كثيرًا، وسيحتاج التاريخ السوري إلى منهج علميّ عظيم لتنقية هذا الكلام وتلك الشهادات، وتحويلها إلى تاريخ يروي الحكاية كما هي، بكل ما تختزنه من مشاعر وعواطف وتجارب عاشها  وشهدها أولئك الذين تُهملهم النصوص الرسمية التي يعتمدها التاريخ التقليدي. وهو تمامًا، ما تهدف وتعمل عليه "وثيقة وطن". 


الخبر الجيّد هنا أيضًا، أنّ "وثيقة وطن" تسعى بجدّ إلى العمل والتعاون مع كل المؤسسات العربية والدولية المعنيّة بهذا المنهج الهامّ في التأريخ، ولذلك سيكون لفريقها حضورًا مميّزًا ونوعيًّا في "المؤتمر الدوليّ للتأريخ الشفويّ" الذي سيُعقد في سلطنة عُمان تحت عنوان"المفهوم والتجربة عربيًّا"، وذلك على مدى ثلاثة أيام، بين 23 و 26 أيلول / سبتمبر الجاري.
 
 



آراء




عدد المشاهدات: 149

التعليقات


إنّ التعليقات المنشورة لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها



العنوان

دمشق - مزة - فيلات غربية

© سيبار. 2024-2025 © جميع الحقوق محفوظة

الاتصال

963116128915

info@seebar.news

تابعنا